التلاعب مع الزمن: أعمال فاتح المدرِّس الورقيّة والتأريخ السوري بين الحداثة والمعاصرة

"يا له من تناقض، رغم أن الإنسان لا يعترف به، أن هناك شيء اسمه زمن. وليس من مصلحته الاعتراف به، لأن الزمن بالنسبة للكون هو مجرّد ثانية، بل جزءٌ صغيرٌ من الثانية. الإنسان لا يحب الزمان. الزمن عدوه.. الوقت عدوّ العقل. نجح الإنسان باستئصال الزمن، وإلغائه. استطاع أن يأخذ الثانية – سواء في اللذة أو التفكير – ويمددها لتصبح شهراً، ولكنه لم يتمكن من القيام بما هو أكثر من ذلك. وبرأيي الشخصي أن هذه هي الطريقة الوحيدة لتفسير الخلود... الخلود هو أن تصنع الزمن، وتروّضه [...] الفنان التشكيلي يعيش ذلك، يوقف الزمن متى أراد. في التحليل السليم للتكوينات والتضارب اللوني، بوسعه أن يتحكّم بالوقت أثناء عمله. هناك لحظات يعطيها عمراً طويلاً، وهي قد تكون مجرّد ثوانٍ. ولحظات أخرى يعمل فيها لأيام دون سدى" (1).

التلاعب مع الزمن: أعمال فاتح المدرِّس الورقيّة والتأريخ السوري بين الحداثة والمعاصرة - Features - Atassi Foundation

فاتح المدرس، بدون عنوان، حبر علي ورق، ٣٠ *٢١ سم، بدون تاريخ

في مُحترَف الفنان السوري فاتح المدرِّس، يعشش الزمن وتبدو تجليات مرور فصوله ملموسة. تتعشّق شبكات العنكبوت في الزوايا المهملة وعتبات نوافِذ الغرفة، و تظهر داخل فناجين القهوة طبقة بقايا البُنّ الجافّ، بينما تنتصب على الحوامل الخشبية عدة لوحات يستكمل الفنان العمل عليها في الوقت نفسه، إلى جانب كتابات قصيرة تحملها قصاصات ورقية على الجدران ورفوف الكتب دوّن فيها شطحات أفكاره. أما الجدران بحدّ ذاتها، فتظهر على جميعها رسومات منفّذة بسرعة. يُشكّل تنفيذ اللوحات والرسومات كممارَسة ذات صلة وثيقة بالوقت والزمن محور هذا التحليل الذي أُسلِّط الضوء فيه على مجموعة أعمال نفذها المدرِّس على الورق، وهي حالياً ضمن مقتنيات "مؤسسة أتاسي للفنون والثقافة". لم تحظَ هذه الأعمال حتى الآن باهتمام أكاديمي، فقد انصبّ التركيز سابقاً على الرسوم الأولية (الاسكتشات) من السنوات الأولى لمشواره الفني خلال خمسينيات القرن العشرين، وكذلك اللوحات التي رسمها بدءاً من الستينيات ووصولاً إلى وفاته عام 1999 (2). يأتي ذلك متسقاً مع تقسيم مسيرة الفنان إلى حقب أصبح لها مكانة شبه دائمة في تاريخ الفن السوري، وكرّستها الصحافة، بحيث تداخل الإنتاج الفني مع الإيديولوجيا القومية. يُشير النقاد والصحفيون إلى أن المدرِّس، وعقب استكشافه واهتمامه بالتيارات الفنية الأوروبية ولاسيما السريالية والتعبيرية في الأربعينيات والخمسينيات، عاد إلى إنتاج أعمال "تمثّل الالتزام بأرض سوريا وشعبها" وقضايا العروبة، حتى أنه نال لقب "رسّام الأرض" لارتباطه الوثيق بالأرض ولمكانته كسفير للفن السوري على المستويين المحلي والعالمي (3). تأخذ هذه التحليلات أبعاداً نوعية مع مرور الزمن: حيث يُشار إلى مرحلة البدايات في مسيرة المدرِّس باعتبارها حقبة "الحداثة"، بينما توصف المرحلة اللاحقة بأنها ضمن إطار "المعاصَرة". أما محتوى الإنتاج الفني للمدرس فقد تم تصنيفه ليعكس تفاصيل سيرته الذاتية وسياقاً تاريخياً وسماتٍ سورية بامتياز. فمن منظور العامة، تهيمن على اللغة البصرية للمدرس المَشاهد الجبلية للشمال السوري، وأطفال الفلاحين، ومَشاهد الأمومة، واللقى الأثرية في البلاد (4).

التلاعب مع الزمن: أعمال فاتح المدرِّس الورقيّة والتأريخ السوري بين الحداثة والمعاصرة - Features - Atassi Foundation

فاتح المدرس، بدون عنوان، الوان مائية على ورق، ٣٦ *٢٦ سم، ١٩٧٣

على عكس الروح القومية التي استمدّ منها الصحفيون والنقاد إلهامهم في لوحات المدرِّس، عندما ظهرت للصحافة الأعمال المنفذة على ورق والتي تقتنيها مؤسسة أتاسي، جرى ربطها بتوجهات فنية شخصية بدرجة أكبر (5). وفي الواقع، الصلة الظاهرة بين هذه الأعمال وذخيرة المدرِّس من اللوحات ضعيفة، حيث تضمّ هذه المجموعة رسومات جريئة لنساء عاريات ، وتصبّغات حبر بشكل غير منتظم تتحول إلى مجسّمات أو أجساد حيوانات، ووجوه مسوخ متجهمة ومتفجّعة. تبدو مواضيع هذه الأعمال غير مألوفة ومتنافرة ومنفصلة عن الطابع الريفي الحزين للفنان. كما كانت الأرضية الورقية لهذه الأعمال مسرحاً لتجارب مثيرة على مستوى المواد المستخدَمة وقوامها: كنزيف الحِبر، والفوضى الشفيفة للألوان المائية، وشكل ووزن الرمل وطابعه الخانِق والمتداعي، والنعومة الحُبيبية للشمع. كلها عناصر تم توظيفها دون أي قيود لدرجة جعلت هذه الأعمال عصيّة على التصنيف ضمن الفئات المعتادة. نُشرت أعمال المدرِّس، المنفذة على ورق، للمرة الأولى عام 2009 في كتاب "فاتح – أدونيس: حوار"، لتحاكي الطبيعة العفوية للحوارات ذاتها، والتي غالباً ما انتهت بـ"تراشق أسئلة" بين الشاعر السوري أدونيس والمدرِّس في تداعي تلقائي للأفكار (6). وفي تحدي إضافي للإطارات الوقتية والزمانية الرسمية، تم تحضير هذه الأعمال، بحسب شهود عاصروا الفنان، في أوقات غير رسمية: أثناء انتظار الفنان لزوّار أو تحضير القهوة، أو خلال التأمل اليومي بالأمور الدنيوية. فبالنسبة للمدرس، إن حالة العطالة المادية والاجتماعية التي ميّزت هذه اللحظات باعتبارها "وقتاً مهدوراً" تحولت بدلاً من ذلك إلى نشاط ذهني وإبداعي استعاد عبره الزمن بشكل فعلي، بل وحتى بشكل مهووس. معظم الأعمال المنفذة على ورق الموجودة ضمن مجموعة مؤسسة أتاسي هي بجُلِّها غير معنونة ولا تحمل تاريخ، مع بعض الاستثناءات التي تجعلنا قادرين على توقّع تاريخها بين مطلع سبعينيات القرن العشرين وعام 1998. ولهذا السبب، لا تزال مكانة هذه الأعمال ضمن المسيرة الفنية للمدرِّس والفن السوري غير واضحة بدرجة كبيرة.

 

التلاعب مع الزمن: أعمال فاتح المدرِّس الورقيّة والتأريخ السوري بين الحداثة والمعاصرة - Features - Atassi Foundation

فاتح المدرس، بدون عنوان، أكريليك على ورق، ٦٩*٣٠ سم، بدون تاريخ

تمثِّل هذه الدراسة محاولة أولى لتقديم هذه الأعمال ضمن إطار تاريخي ونقدي من خلال وضعها في السياق الأكبر لمسيرة المدرِّس في عالَم الرسم وتاريخ التعليم والنقد الفني السوري. ومن شأن هذا السياق إفساح المجال أمام فهم أكبر للغة البصرية الموسعة للفنان، التي لا تقتصر على الأحداث التي شهدتها سيرته الذاتية فحسب، بل تستفيد كذلك من الانخراط المستمر في الحوارات ذات الصلة بالفن والأدب ودور الثقافة في المجتمع، سواء في سوريا أو على المستوى العالمي. الاستمرارية التي امتازت بها ممارسة المدرِّس على مستوى الرسم – وهو ما يُشير إليه هذا التأريخ الموجز – تتحدى التقسيمات التقليدية لمسيرته إلى حقب. كما أن هذه الأعمال المنفذة على ورق، ومن خلال علاقتها متعددة الأشكال مع الزمن، تدفعنا لإعادة النظر في السردية الزمنية الفنية السورية، وتحليل أبعاد مصطلحي "حديث" و"معاصر" الحساسَين واللذين غالباً ما يتم توظيفهما لتصنيف الفنانين وأعمالهم في التاريخ. لا يهدف هذا التحليل إلى إجراء مسح شامل للأعمال الفنية، بل يسعى إلى المساهمة في المهمة الأكبر والمتمثلة بتوثيق تاريخي للفن السوري، وهو مشروع تستثمر فيه بقوة جهات مثل مؤسسة أتاسي (7).     

بعد دراسة متأنية والأخذ بعين الاعتبار أعمال المدرِّس المنفذة على ورق باعتبارها استثناءً للتسلسل الزمني لمسيرته الرسمية ولمكانته الملتبِسة في تاريخ الفن السوري، أجد نفسي مضطرة على طرح السؤال التالي: ما هو الزمن؟ (8) من خلال وضع تاريخ موجز للذخيرة البصرية التي يستند عليها إنتاج المدرِّس المستمر للأعمال المنفذة على ورق، أقومُ هنا بتحليل محاولة الفنان التحكم بالزمن:

 

1. تمديد الزمن: عبر تجريب تقنيات الرسم الأوتوماتيكي السريالية في الخمسينيات والستينيات، والانخراط في عملية تواصل مع الفن والتقنيات الأوروبية والأمريكية بطريقة تفسح المجال أمام إعادة صياغة أصيلة، بدلاً من التقليد الأعمى (9).    

2. أسر الزمن: عبر انخراطه في قضايا الأصالة الوطنية والتمثيل والمعاصرة بين سقوط الجمهورية العربية المتحدة عام 1961 و"النكسة" (10) في سياق حوارات متواصلة مع الأشكال الفنية الأجنبية.

يصبح التحكم بالزمن في هذه الحالة عبارة عن تعبير مجازي عن التداول بخصوص موقف الفنان كمواطن وعضو في المجتمع إزاء دوره في النقاش الدولي المتعلق بالإنتاج الفني العالمي الذي يشهد تقاطع سرديات زمنية متعددة على مستويات مختلفة. ويبدو التسلسل الزمني للفن السوري من خلال دراسة هذه الحالة نسبياً وعَصِياً وفوضوياً (11).

مواجهة الزمن

خلال حديثه مع المخرِجين عمر أميرلاي ومحمد ملص وأسامة محمد عام 1995، شبّه فاتح المدرِّس استقلال سوريا عام 1946 بأنه "بوابة فولاذية أسطورية هائلة خرجت منها حشود جماهيرية" (12). يُقدّم ذلك الوصف إضاءة على حلب، مسقط رأس المدرِّس، في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، التي وعلى الرغم من سمعتها كمنطقة إدارية بعيدة، إلا أنها كانت فضاءً يتمتع بالغنى الثقافي والبصري (13). قبل تفكك الإمبراطورية العثمانية، تمتّع أفراد الطبقة البيروقراطية المحلية في حلب باستقلال سياسي وإداري نسبي عن الحكم العثماني المركزي (14). كانت المدينة كذلك مركزاً للتجارة والتبادل الفكري: فهي تقع على مسار الحج للمتوجهين إلى مكة، ووفّرت طريقاً اقتصادياً رئيسياً للتبادل التجاري (15). وبحلول عام 1947، شهدت المدينة حركة نشطة في المقاهي التي يرتادها الفنانون والكُتّاب لاحتساء القهوة والكتابة والرسم علناً، كي يلتقوا مع بعضهم ويراهم الناس. أما المكتبات – التي كان الفنانون يعرضون أحدث أعمالهم على جدرانها – فقد كانت رفوفها تضم آخر إصدارات المؤلفين المحليين والطليعيين الأوروبيين: يستحضر المدرِّس وأدونيس أنهما كانا يشتريان دواوين لشعراء مثل رينيه شار وماكس جاكوب والكونت لوتريامون من مكتبات شارع بارون (16) الذي وصفه المدرِّس بأنه "نسخة عن جادة الشانزيليزيه" (17). والسريالية – تلك الحركة الفكرية والأدبية التي ترتبط جذورها تقليدياً بنشر أندريه بريتون لكتابه "بيان السريالية" في باريس عام 1924 – شكّلت إحدى اللغات البصرية والشعرية التي انخرط فيها فنانون ومفكرو حلب إبّان تلك الحقبة. وبالنظر إلى ذكريات أدونيس ومدرِّس، لم تكن السريالية مجرّد تأثير عابِر، بل كان لها حضور جلي في نسيج المدينة.

كان الشاعر السوري أورخان ميسَّر (1912-1965) في طليعة من انخرطوا مع السريالية على مستوى الإنتاج الإبداعي. كان ميسَّر متعدد الثقافات وأتقن عدة لغات ودرس الطب والفيزياء والأدب في إسطنبول وبيروت وشيكاغو، وكان سليل أسرة عريقة من الأعيان (18). استهلّ ميسَّر تنظيم أمسيات في شقته في حلب أواسط الأربعينيات بشكل شبه يومي (19). كانت كل أمسية تبدأ حوالي السابعة مساءً وتستمر حتى وقت متأخر من الليل، ومن كوكبة مثقفي حلب الذين واظبوا على الحضور كان هناك الشاعران عمر أبو ريشة (1910-1990) وعلي الناصر (1890-1970) ومدرِّس والرسام عدنان ميسَّر (1921-1979) شقيق أورخان. إلى جانب إلقاء الأشعار الحديثة، كان الحضور يخوض نقاشات عن نظريات التحليل النفسي لسيغموند فرويد وكتابات شارل بودلير وأرثر رامبو، ونصوص أندريه بريتون، وأعمال سلفادور دالي وماكس أرنست وبابلو بيكاسو (20). وفي مارس 1947، قدّم ميسَّر محاضرة عن السريالية في حلب، يُرجح أنها عُقدت في المركز الثقافي البريطاني، ولاقت صدى جيداً لدى الجمهور الدولي (21). وثّقت هذه المحاضرة دور ميسَّر كداعٍ أساسيٍّ لاستحضار السريالية في حلب عبر الترجمة والشرح وإنتاجه الإبداعي السريالي الخاص.

إبّان نشأتها الباريسية، ومن خلال "بيان السريالية" (1924) الذي أطلقه بريتون، قدّمت السريالية نفسها باعتبارها نمطاً جديداً للحياة، لجهة تفضيل حالات حالمة ولا عقلانية على الفكر الواعي تيمناً بنظرية "اللاوعي" لفرويد. لم تولِّد هذه الحركة إنتاجاً أدبياً وفنياً فحسب، بل تولَّد عنها كذلك حراك سياسي وعصيان اجتماعي سمح لأفرادها باختبار "إمكانية وعواقب العمل الجماعي" (22). ومن خلال أنشطته السريالية، سعى ميسَّر لتوظيف هذه الإمكانيات الثورية والتغييرية للسريالية باعتبارها أداة للتغير الثقافي والمجتمعي والسياسي. ولهذه الغاية، قام ميسَّر عام 1947، وبالتعاون مع علي الناصر، بنشر ديوان "سريال" الذي يضم مجموعة من القصائد التجريبية (23). وفي أغسطس 1951، نشر ميسَّر مقالة عن السريالية في مجلة "الأديب" اللبنانية المختصة بالأدب. وفي معرِض رده على مقالة سابقة نشرها من حلب خليل هنداوي، نسب ميسَّر للسريالية قدرتها الشاملة على خلخلة أركان المعرفة والفكر الإنساني:

ليس مفهوم السريالية هو هذه الفوضى التي تعبر عن شتى نوازع النفس دون التقيد بنظام فكري أو نظام تقليدي كما أراد أن يفسره الصديق الأستاذ هنداوي. فالسريالية خطوة أبعد من هذه المحاولة فهي هذا العالَم الخاص الواسع الآفاق، السحيق الأغوار [...] تنتفض ظلالاً للفرد في مهده ولحده [...] وكهفه ومختبره وناطحات سحابه (24).

وفي أواخر الأربعينيات ومطلع الخمسينيات – التي شهدت انخراطه بشكل مكثف مع السريالية – كان ميسَّر كذلك عضواً نشطاً في الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي أسسه عام 1932 المفكر اللبناني أنطوان سعادة (1904-1949) (25). تعرَّض أورخان، وشقيقه عدنان، للسجن عدة أشهر في دمشق عام 1955 ضمن تبعات مقتل العقيد عدنان المالكي على يد أحد عناصر الحزب، وألقى قصائد مقاومة بصوت عالٍ من زنزانته إلى جانب غيره من المفكرين المعتقلين (26).   

عند نشرهما ديوان "سريال" عام 1947، كان ميسَّر وعلي الناصر يُجسِّدان نبض المشهد الشعري السوري المعاصر الذي حاولا إحيائه وتجديده، رغم أن ميسَّر أعرب عن خشيته من عدم إقبال القراء على هذه الأنماط الشعرية المتطرفة نظراً لكون ذائقتهم محصورة بالسرديات الشعرية المعتادة والمألوفة (27). تمثّل هدف الكِتاب، الذي ضمّ مساهمات للشاعِرَين، إلى الابتعاد عن الأشكال التقليدية للشِّعر العربي، وضمّ تمهيداً وخاتمة كتبهما ميسَّر، واللتين كانتا فعلياً بمثابة بيان لرؤى السريالية السورية، ورفض التقيّد بالسريالية دون انتقاد وكأن السريالية السورية ملحقة بالمجموعة الباريسية (28). اشتملت نصوص الكتاب على نقد وجهه ميسَّر للشعر العربي المعاصر لكونه خفيفاً ومسهباً بشكل مفرط ومثقلاً بالبلاغة. ومن خلال مصطلحات مدينة بالكثير لدراسة ميسَّر للفيزياء والطب، يدعو لنَظْم شعر نثري أكثر مرونة يقتصر على الجوهر فحسب (29). يتمثّل المبدأ الأول بالتكثيف الشِّعري الذي شبّهه بتصنيع حبوب فيتامين ج (سي) من ثمار البرتقال (30). أما المبدأ الثاني فهو البلورة الشعرية والفنية، التي تستحضر الظاهرة الطبيعية لتصلُّب المادة من حالتها الغازية أو السائلة إلى بنية بلورية. وقد شرح ميسّر كيف أن اللاوعي يشبه سائلاً يوجد منه مخزون هائل، لكن يمكن للفنان أن يوثّق بشكل جزئي تجليات هذا المخزون من خلال رؤى غامضة ومرتعشة قبل تلاشيها (31). ولهذا، فإن تجسيد اللاوعي في العالَم الخارجي هو بمثابة ممارَسة ذات صلة وثيقة بالوقت والزمن. تتذكر الشاعرة خالدة سعيد، أنها توجّهت بالسؤال لميسَّر عما إذا كان يدوّن ملاحظات عندما يأتيه الإلهام، ليُجيبها بأن "الكتابة تستغرق وقتاً وتدمّر منبع الاكتشاف وفوريته" (32). ومن هنا، فإن تجسيد اللاوعي يتم من خلال عملية تكثيف لصور غامرة ومجزّأة في الوقت ذاته، أي أنها دفق سريع من صور لا يمكن للفنان أن يراها بشكل كامل، بل يختبرها بشكل جزئي (33).

بالنسبة للمدرّس، الذي كان على صلة وثيقة بأوساط ميسَّر في الأربعينيات والخمسينيات، أثبتت تقنية الرسم الأوتوماتيكي السريالية – التدوين اليدوي الجامح لتدفق الخيال – أنها بمثابة أداة مفيدة لتسجيل صور اللاوعي. كان الفنان يجلس في نفس الركن في مقهى البرازيل لممارسة الرسم الأوتوماتيكي وتدوين قصص ونظم الشِّعْر السريالي والتدخين، حتى أن رماد السجائر يختلط مع الحبر (34). وفي أولى محاولاته مع الأعمال المنفذة بالرسم الأوتوماتيكي، اختبر المدرِّس استخدام الشمع مستفيداً من إيحاءات هذه المادة في إطار سباقه مع الزمن الهارب للاوعي: فقد كان يمدّ الشمع على السطح لتشكيل طبقات سميكة ولزجة، ويتركه ليأخذ تكوينات تتشكل بحسب الصدفة ككتل متراكبة داخل بعضها. في أحد هذه الأعمال التي تعود لعام 1953 وتحمل عنوان "هالة"، استخدم المدرِّس شمعاً أسود اللون لتشكيل صورة فظيعة: شكل امرأة ذات عنق طويل ومعالِم وبنية مشوّهة وغير مكتملة، شكّلها الفنان من خلال تكوينات مروّعة من خطوط سريعة وحادة وسميكة إلى جانب تشكيلات أكبر وأكثر امتلاءً من المادة الشمعية. والمرأة الظاهرة، العمياء باستثناء شَقَّين داكنَين في الموقع المفترض للعينين، تتراءى من وراء غشاوة وكأنها رمز قاتم مهدِّد تتفجر وترشح منها ظلال وخيالات، تتَضُح معالمها بشكل جزئي، ولربما ليست كينونتها مادية بشكل كامل. يأخذ محجر عين أسود كئيب في الجهة اليسرى مكان العين، وكأنه نذير شؤم لقدراتها وكذلك محدودية رؤية الإنسان. ومع ذلك، كان الوقت، وانقضاؤه، جوهرياً في ممارسة المدرِّس للرسم الأوتوماتيكي. يشير سليم عبد الحق، مدير للآثار في المتحف الوطني في دمشق والناقد الفني النشط، إلى أن الفنان اعتاد التأمل بشكل متواصل لعدة ساعات أو حتى أيام قبل أن يولِّد خياله صورة سريالية، مع بذل جهد ذهني "يجاري ذلك الذي بذله جوبيتر لولادة ابنته منيرفا من رأسه"، بحيث يقوم المدرِّس "بدعم عقله الواعي باللاوعي ويُحرر الإبداع" (35). تلي ذلك مرحلتان: الأولى، قيام الفنان برسم مواضيع متعددة للصور التي استحضرها؛ والثانية إفراد متَّسع من الوقت وهو يتأملها، وفي النهاية يلقي جميعها جانباً، ويبدأ من جديد (36).

التلاعب مع الزمن: أعمال فاتح المدرِّس الورقيّة والتأريخ السوري بين الحداثة والمعاصرة - Features - Atassi Foundation

فاتح المدرِّس، "هالة"، 1953. شمع أسود على ورق. الأبعاد غير معروفة. عمل ضائع. يظهر العمل مطبوعاً في مقالة سليم عبدالحق، "مع الفنان فاتح المدرس"، "أهل النفط" 3، عدد 34 (مايو/أيار 1954)، 40. بإذن من مكتبة الكونغرس

وفي شهادة أخرى، يشير الناقد الفني سلمان قطايا إلى أن أعمال المدرِّس المنفذة بالشمع توحي بأجواء سريالية "حملها معه من المرحلة السريالية [...] شخصياً، أعتقد أن هذه المراحل كانت مجرّد فترات لإجراء أبحاث حيث كان الفنان يبحث عن وجود وشخصية له" (37). إلا أن هناك مؤشرات على أن المدرِّس استمرّ في استقصاء تجسيد خارجي لصور داخلية حتى نهاية مسيرته، وهي عملية أشار إليها في الحوار مع أدونيس بأنها "رؤية بعين العقل":

"سؤالك لم يحدد ما إذا كان ما أرسمه يُرى بالعين المجردة أو عين العقل، ولكن لا بأس. العقل برأيي يضطلع بهذه المسألة ويؤكدها، ويجعلها ملموسة. ومن المنطقي أن لا يتمكّن كل الناس من تحديد ما إذا كان ما يرونه بعقلهم مختلف عما ’يرونه‘ فعلياً [بعينهم]" (38).               

انطلاقاً من هذا المفهوم، بوسعنا ربما أن نفهم طبيعة الأعمال اللاحقة المنفذة على ورق، والتي تنتقل فيها تصبّغات مرتعشة لألوان نازفة من شكل لآخر، بحيث تتطلب تدخل الفنان لإظهار الأشكال الكامنة فيها من خلال الرسم عليها. بينما تتطلّب أعمال أخرى رؤية بصرية وعقلية من قِبل المُشاهِد لكي يستكمل المشهد ويفهمها، فالتكوينات المتنافرة تستحضر في الذهن أشكالاً مألوفة لأجساد ووجوه في رسوم موحية وغير منتهية. وعقب فترة الأربعينيات، التي شهدت أقوى انخراط للمدرس بالسريالية، استمرّ بالرسم الأوتوماتيكي – والنمط الانطباعي للمساحات اللونية – كأداة مفيدة للتشخيص النفسي الشخصي والمجتمعي. وفي عام 1953، جرّب اختبار رورشاخ، وهو عبارة عن اختبار تشخيصي وضعه المحلل النفسي النمساوي هيرمان رورشاخ في أواخر القرن التاسع عشر، ويتم من خلال ترك بقع على ورقة ومن ثم طيّها إلى نصفين لإظهار تصبغات لونية متناظرة تحمل معنى (39). عبر السماح للصدفة واللاوعي بتشكيل الصورة، تحوَّل الفنان من مبدع نشِط إلى مُشاهِد، بحيث يمنح شكلاً موضوعياً لما كان شيئاً داخلياً فقط.

 

التلاعب مع الزمن: أعمال فاتح المدرِّس الورقيّة والتأريخ السوري بين الحداثة والمعاصرة - Features - Atassi Foundation

فاتح المدرس، بدون عنوان، مواد مختلفة على ورق، ٣٠ *٣٠ سم، بدون تاريخ

أحد الأعمال ضمن مجموعة أتاسي يوظّف بشكل مشابه التصبّغات اللونية كأداة للتشخيص وتناصّ على مستوى المعنى: الاستخدام الفوضوي للألوان المائية على ورق، فهي سميكة في بعض الأجزاء ومخففة في أخرى لتُشكّل صورة لشخصية. ورغم أن الهيئة المتموجة لهذه الشخصية تحاكي المادة المستخدمة في رسمها، إلا أنها مألوفة بالنسبة للمُشاهِد نظراً لكونها متعلقة بالمخيال البصري للمسيحية: فلبرهة نرى المسيح، وفي أخرى نلاحظ مريم العذراء تُرضع ابنها. ويبدو أن تدخُّل الفنان على التصبغات اللونية يؤكد على هذا الفهم للعمل، حيث يرسم ثلاثة صلبان حمراء اللون بواسطة شمع أحمر لزج في إشارة إلى تضحية المسيح، وتتخلل العمل خطوط ودوائر واهية من الشمع ذي اللون الأزرق الفاتح الذي يستحضر العذراء. في لوحة المدرِّس "عائلة في الهواء الطلق" (1964)، يحمل جسد أحد الشخوص علامة الصليب بشكل مشابه، وهو ما دفع المالكين الأصليين للعمل لمنحه اسم "العشاء السري". وقد قدّمت الباحثة أنيكا لينسن قراءة نفسية جنسية للوحة حيث تشير علامة (X) بشكل مبهم إلى جسد الذكر ضمن كوكبة من الإناث بأثدائهن الدائرية، أو إلى الافتقار إلى العضو الذكري، وهو ما يستحضر مفهوم العذرية والافتداء بالموت (40). والنمط السائد في هذه الأعمال من ناحية استحضار الرغبات الجنسية ومن ثم تحريرها يُحيل إلى سلسلة شحن وتحرير الدافع الجنسي بين "الهو والأنا والأنا العليا" بحسب فرويد، وهو ما تَردد صداه لدى ميسر في ديوان "سريال". وفي تصريح لاحق له، ساوى المدرِّس بين عملية الرسم وكينونة أطلق عليها مصطلح "حالة حيوانية" تتحكم فيها الرغبات الأساسية، والمناقضة تماماً للإنسانية والتفكير المنطقي (41).

التلاعب مع الزمن: أعمال فاتح المدرِّس الورقيّة والتأريخ السوري بين الحداثة والمعاصرة - Features - Atassi Foundation

فاتح المدرس، بدون عنوان، ألوان مائية على ورق، ٢٧ * ٢٣ سم، بدون تاريخ

رغم توصيف سلمان قطايا للسريالية باعتبارها مرحلة مؤقتة سيتجاوزها المدرِّس، إلا أن الفنان استمرّ بالتجريب في عالم الرسم الأوتوماتيكي حتى الستينيات. وفي عام 1962، تعاون المدرِّس مع الكاتب السوري شريف خزندار (1940–) لنَظْم مجموعة أشعار سريالية أوتوماتيكية ثنائية اللغة خلال نهاية أسبوع مطوّلة، بحيث يظهر النص العربي تحت عنوان "القمر الشرقي على شاطئ الغرب" جنباً إلى جنب النص الفرنسي تحت عنوان (Lune Orientale sur le Rivage Ouest) مع تمهيد كتبه ميسَّر نفسه (42). وفي هذا الديوان الصغير، الذي تمت طباعة 500 نسخة فقط منه، تم كسر التقسيمات التي تفصل بين الشعر والرسم، وبين الإنتاج الأدبي والفني – فحيث انتهى أحدهما، بدأ الآخر– بطريقة وصفها الناقد أندريه بيركوف بأنها "تستحضر أبوليني، لكن وكأنه جالسٌ على ضفاف بردى" (43). وصفحات الديوان التي تحمل رسوماً وخربشات بطريقة فوضوية تتطرّق لمواضيع الحب والفقدان والمخاوف النووية التي رافقت الحرب الباردة آنذاك والسفر عبر الفضاء، بالإضافة إلى ظهور مستمر لأساطير بلاد الرافدين (44). والأمر الأبرز الذي عكسه هذا الديوان الصغير يتمثل بمفهوم أن الرؤية هي عملية فيزيائية وتجريدية في الوقت ذاته، فالديوان حافل بالرموز المتعلقة بذلك. حيث ضمّ رسومات منفذة بسرعة لعيون بلا جسد، وأشعاراً تصف تجارب مشحونة حسياً، بالإضافة إلى تلاعب متكرر بالكلمات والألفاظ. تحتفي إحدى القصائد بليلى، الحبيبة الخالِدة، وهو موضوع متواتر في الديوان. ففي أحد المقاطع الشعرية، يتكرر حرف "O" مع توظيف الجناس اللفظي فيه، ليتم استبداله بأشكال بيضاوية ترمز لشكل مبسط للجفون (45). ورغم أن القصيدة تبدو وكأنها تقدم رؤية عن الحب، إلا أن الصور الشعرية تستحضر أماكن مقفرة وصدى مكتوم وعيوناً كفيفة في فضاء الليل. فليلى – التي يحيل اسمها إلى الليل – تصبح عائقاً أمام الرؤية، بدل أن تُعين عليها.

في الرسوم التي نشرها إبّان الستينيات، أصرّ المدرِّس على تعقيد العلاقة بين الكلمة والصورة، وهو ما لمسه جمهوره أيضاً. وفي عام 1963، نشر الياس عوض مقالة في مجلة "أدب" (46) اللبنانية المتخصصة، واستخدم فيها زيارته للمعرض الفردي للمدرس في "غاليري واحد" في بيروت لتكوين فهم جديد للتجربة الجمالية في لوحات المدرِّس من خلال معادلة رياضية (47). ورغم أن المقالة ركّزت على اللوحات، إلا أنه نُشر معها رسمين على ورق واستُخدم فيهما قلم حبر لتقديم شخوص إنسانية شبه متشكّلة وغير مكتملة ولا يظهر منها سوى الخطوط الأساسية. تصبح أعمال المدرِّس الفنية، في مقالة عوض، بمثابة مخازن نصية لمعطيات عاطفية يمررها الفنان للمُشاهِد عبر عملية تواصل غير شفهية (48). ظهرت شخوص مشابهة في رسوم للمدرس أعدها لتُنشر إلى جانب أربع قصائد في عدد يعود لعام 1964 من مجلة "شِعر" التي أسسها يوسف الخال عام 1957. مجدداً، تظهر الشخوص هنا وكأنها وُلدت من تلوينات نازفة تدخّل فيها الفنان لاحقاً (49). العين هائلة الحجم تترصد بشكل مشؤوم في خلفية رسم لأم وطفل تسمّرا سوية ضمن شكل بيضاوي نتيجة حمل المرأة للطفل بيدين أكبر من الحجم الطبيعي، وهو ما يشير إلى التوتر القائم بين الرؤية الداخلية والتجسيد الخارجي: العين ذات الرموش الممتدة للخارج وكأنها أشعة الشمس "ترى" كينونة الشخصين. تظهر شخصية مبسَّطة مشابهة في أحد الأعمال المنفَّذة على ورق من مجموعة أتاسي: على خلفية ورقية خضراء اللون وملمس حُبيبيّ، تم استخدام الألوان المائية بضربات فرشات سريعة وعريضة وتُركت حتى تتجمّع على بعضها وتتلاشى تدريجياً. وفي الأسفل، يبدو وكأن المدرِّس وضع أيضاً بعض الرمل على اللون وهو ما يبرز طابعاً ثلاثيّ الأبعاد للعمل. المساحات اللونية تفسح مجالاً للرؤية وتحجبها في الوقت ذاته: فمن خلفها، بوسعنا ملاحظة قدم في الزاوية السفلية اليسرى، بينما يُحدق باستحياء وجه بارز من الجهة اليمنى، أما في وسط الرسم، فتظهر إلى الوجود عين واحدة أو ثدي واحد من دوامة لون مائي. وفي الزاوية العليا اليسرى، يتراءى جسد معلّق – منفَّذ ببضعة خطوط فقط – وكأنه يتأرجح من جهة لأخرى. وفي عمل يعود تاريخه لعام 1978، تخلّص المدرِّس من الجسد برمته، وترك ضربة ريشة عريضة تكتسح المشهد وحدد أطرافها بأبيات من الشِّعر الأوتوماتيكي وصور متشظية لرؤى حالمة، منها: "أرى على صدرك، أيها الليل، نجوماً" و"أحكي لك أحلاماً محشوة بالخبز والنساء".

حافظت السريالية على مكانتها كمنبع إلهام للمدرس إلى ما هو أبعد من تفاعله الأول معها خلال الأربعينيات، وتقنية الرسم والكتابة الأوتوماتيكية أتاحت أداة مفيدة ومنتِجَة على ما يبدو لأسْر – أو تمديد – الزمن، وتسجيل الصور المتداعية من لا وعي الفنان، وكذلك المجتمع. وفي واحد من آخر أعماله، والذي يحمل اسم "بورتريه ذاتي" – وكأنه يحمل نبوءة لكونه نفَّذه قبل عام واحد فقط من وفاته – استمرّ المدرِّس بتوظيف تقنيات الرسم الأوتوماتيكي: حيث قام بتأطير معالِم وجهه المرسومة بسرعة عبر ألوان أسقطها على الورق وتركها تسيل وكأنها خلايا أو مشابِك عصبية. تُشكّل هذه المعالم صلة حميمة بين طريقة تقديم الفنان لنفسه وبين كينونته نفسها ونهج السريالية.

التلاعب مع الزمن: أعمال فاتح المدرِّس الورقيّة والتأريخ السوري بين الحداثة والمعاصرة - Features - Atassi Foundation

فاتح المدرس، بدون عنوان، مواد مختلفة على ورق، ٢٧ * ٢٢ سم، ١٩٧٨

في إطار الزمن

من خلال أعماله الورقيّة، كان فاتح منخرطاً بشكل فعال في زمنه أيضاً: فقد شرع فنانو سوريا في الستينيات والسبعينيات بقولبة معاني الحداثة والمعاصرة في إطار الأوضاع الاجتماعية والسياسية المتغيّرة باستمرار لبلاد وضعت هوياتهم أمام اختبارات مكثفة كمواطنين سوريين وكفنانين دوليين كذلك (50). تعكس سرديات تلك الفترة حالة من التوتر بين تعددية المشهد الفني التي تمتعت بها سوريا – وبالأخص من خلال برامج التبادل المعرفي مع مصر وإيطاليا – والحاجة إلى الإحساس بامتلاك ناصية حاضر ومستقبل البلاد من خلال التعبير الفني، وذلك عقب الانتقال من الحكم الإداري العثماني والانتداب الفرنسي. وخلال تلك الفترة، ترسّخت رسمياً جذور السرديات الحديثة للفن السوري. ونُدين للكاتب السوري طارق الشريف (1935–2013) – والذي أصبح لاحقاً أحد كتاب السيرة الذاتية للمدرِّس – برأي ثاقب في هذه المسألة. ففي عام 1973، نشر الشريف مقالة تحت عنوان "أزمة الفن التشكيلي العربي المعاصر" في مجلة "المعرفة" السورية. وبالنسبة للكاتب، تتجسد الأزمة بما يلاحظه من توسّع الهوّة بين الفنانين العرب وجمهورهم، وهو ما ينسبه إلى الاعتماد المفرِط على التأثيرات الأوروبية والافتقار إلى طابع عربي متمايز (51).

نشر الشريف بعدها مقالة أخرى في عام 1975 في نفس المجلة وتحت عنوان "تحليل لمعنى الفن الحديث"، والتي حلل فيها المعنى الزمني للفن الحديث باعتباره نتاج عصر تاريخي معين، بحيث أن قيمته المعيارية تشير إلى فترة تغيّر القالب الفني، مُعرِباً عن أساه بوجوب إجبار الفنانين العرب على اتباع التسلسل الزمني للحداثة الذي وضعه الفنانون الطليعيون الأوروبيون تاريخياً في القرن العشرين (52). وضع الشريف تسلسلاً زمنياً للفن العربي الذي اتّبع نهجاً مشابهاً من التطور التقدمي. وحاجَج بأنه عقب فترة النهضة العربية التي شهدت تبني الفنانين لأشكال فنية تجاوزت تلك المحلية لكي يتعرّفوا من الفن الأوروبي على كيفية تقديم فن حديث، كان يتوجب على الفنانين العرب أن يضعوا جانباً هذه التأثيرات الأجنبية ليُظهروا مجدداً الأشكال الفنية المحلية الموروثة (53). ويضيف الشريف بأنه عندها فقط يمكن للفنانين أن يحافظوا على "صلة بالجوهر"، ويوظّفوه في إطار التعبير المعاصِر (54). تدفع مقالات الشريف باتجاه رؤية للحاضر والمستقبل الفني تعوِّل بشكل كبير على التزام بالأصالة العربية كما روّج لها حكم حزب "البعث" على يد حافظ الأسد: بأن المنطقة ستتبنى نهجاً في التعبير الفني يسير بالسرعة التي تناسبها وبحسب تسلسلها الزمني الخاص، بحيث يمضي في إطار الزمن ويمتلك ناصيته (55).  

التلاعب مع الزمن: أعمال فاتح المدرِّس الورقيّة والتأريخ السوري بين الحداثة والمعاصرة - Features - Atassi Foundation

فاتح المدرس، بدون عنوان، حبر على ورق، ٣٠ * ٣٠ سم، ١٩٩٠

إلا أن هذه السرديات لم تبدأ في السبعينيات. فمنذ أواخر الخمسينيات، انخرط الفنانون السوريون في حوارات على مستويي الكلام واللغة البصرية لتحديد أبعاد العلاقة بين الشكل الفني والتطور الاجتماعي والهوية الوطنية – أو الإقليمية – في إطار معاصرة مضطربة (56). أتى قيام الجمهورية العربية المتحدة عام 1958 بين سوريا ومصر تحت حكم قومي عربي للرئيس المصري جمال عبدالناصر، ومن ثم الانفصال الدراماتيكي بينهما عام 1961، وانقلاب عام 1963 الذي أتى بحزب "البعث" إلى السلطة في سوريا، واحتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان في "نكسة حزيران" عام 1967، لتكون ضمن جملة أحداث جرت خلال فترة قصيرة من الزمن ورَشَحَت منها هذه السرديات (57). وفي عام 1965، عبّر الفنان والمؤرخ السوري عفيف بهنسي في مجلة "الآداب" اللبنانية عن صعوبة الكتابة عن تاريخ الفن السوري الذي يبدو في الوقت ذاته مفرطاً في المعاصرة ومفرِطاً في النضارة ولكنه ليس "فنهم الخاص" (58). يعكس هذا التحذير تعريفاً تقدّم به الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين الذي شبهه "باستحالة رؤية ضوء النجوم البعيدة التي لا تصلنا على الإطلاق، لأنها تنحسر بأسرع من قدرتنا على تمييزها"(59). 

مفهوم النهضة العربية كما قدّمها كلّ من بهنسي والشريف يشير إلى فترة رافقت أواخر الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات عندما كانت الفرصة سانحة أمام الفنانين لدراسة الفن في الخارج، وإدماج ما تعلّموه، إبان عودتهم، مع الأشكال والتقنيات الفنية المحلية. وبشكل مشابه، كشفت كريستن شيلد عن تاريخ ممارسة الفنانين اللبنانيين لرسم شخوص عارية بين العشرينيات والأربعينيات في إطار استقصاء منهجي لما تعنيه مصطلحات مثل "الحداثة" و"المعاصَرة" في الإنتاج الفني (60). ويُقدِّم هذا التأريخ دليلاً على الضغط المتولِّد عن إفساح المجال أمام إنتاج فني محلي أصيل في إطار التقنيات التي تعلّموها. فقد قام فنانون لبنانيون مثل قيصر جميِّل (1898–1958) وداوود قرم (1852–1930) وعمر الأنسي (1901–1969) ومصطفى فرّوخ (1901–1957) وجبران خليل جبران (1883–1931) بتنفيذ لوحات ورسومات لشخصيات عارية، إما بمساعدة عارضات أو عارضين محليين أو استقاءً من خيالهم. حتى أن الكاتب اللبناني أمين الريحاني (1876–1940) ترك عدة رسومات لشخوص عارية، بما فيها اسكتشات لراقصات باليه عاريات ومَشاهد فانتازيا استشراقية تم تنفيذها بسرعة وباستخدام تقنية رسم غريبة بحيث عكست أهواءً إباحية أكثر من كونها التزاماً جاداً بدقة تشريح معالم الجسد. كانت صور الشخوص العارية موجودة في الصحافة الشعبية من خلال الإعلانات والرسوم المتحركة، وشكّلت جانباً من المشهد البصري لبيروت (61). وبدلاً من كونها شيئاً يجب إخفاؤه، كانت بمثابة خطوة ضرورية في إطار انخراط الفنانين في مجتمع متطوّر بسرعة: وعوضاً عن كونها مجرّد نتاج عصرهم، كان الفن والفنانون محرِّكاً لنشأتهم أنفسهم، وهو ما أشار إليه جميِّل في نص نشره في مجلة "الأديب" اللبنانية عام 1943، والذي وصف فيه الرسّام باعتباره أداة رئيسية في تطور الأمة (62).  

عبر التعليم الذي تلقاه، اضطلع المدرِّس على الأوساط الفنية اللبنانية. وفي طرفة يرويها الفنان، أن الكاتب اللبناني وأستاذه في مدرسة عاليه التمهيدية مارون عبّود (1886–1962) اصطحبه إلى بيروت لتعريفه بأساتذة الرسم وزيارة قيصر جميِّل. وتنقُل الطرفة أن عبود، وإبان عودتهما إلى عاليه، وضع يده على كتف المدرِّس وتوجه في سؤال يحمل نبوءة "رسّام أم كاتب؟" ليُجيبه المدرِّس "من الكاتب، يُولَد الرسام" (63). احتمال أن المدرِّس التقى بـ جميّل في أواخر الثلاثينيات يسمح لنا باعتباره مُشاهداً يَغُبُّ من تاريخ رسم الشخوص العارية في لبنان، والتي تحوَّلت في مرحلة لاحقة إلى ممارسة فنية نشطة. تصوير المدرِّس للنساء العاريات ضمن مجموعة مؤسسة أتاسي، والمنفَّذة بسرعة بضربات كثيفة بقلم حبر، محذوفة من المقاربة الأكاديمية اللبنانية لرسم العراة بسبب تلاعبها الشديد، بل وحتى تشويهها، للهيئة الإنسانية. وفي أحد هذه الأعمال، تظهر عارضة تُمتِّع نفسها ومجرّدة من الطابع الإنساني ومجوّفة العينين ومنخرطة إما في سلوك عنيف أو عملية خلق: تلوِّح أصابعها بإبرة تطعن بشكل متكرر أعضاءها التناسلية التي لا يمكن تمييز معالمها. يمكن النظر إلى الإبرة باعتبارها القلم الذي يقوم بالفعل الفني. وفي حديث له مع سلمان قطايا، يصف المدرِّس أولى تجاربه مع الرسم وهو طفل صغير، عندما كانت تعتني به عماته. يتذكر تلك بأنها تجربة كانت مدمرة وتجديفية: فقد رسم جسداً عارياً من صورة تشريحية موجودة في قاموس لاروس، لتقوم عمته المحجَّبة بتمزيقها (64). تابع المدرِّس سرد الحكاية ضاحكاً: "عرفتُ عندها أني فزتُ وأنه يتوجب علي رسم المزيد". (65)

تم قبول المدرِّس عام 1956 في منحة مدتها أربع سنوات لدراسة الرسم في أكاديمية الفنون الجميلة في روما، وهي فترة أفسحت أمامه المزيد من الفرص للانخراط في تجارب جامحة على مستوى اللوحات والرسومات (66). تم إطلاق برنامج التبادل الدراسي بين إيطاليا وسوريا عام 1952، وذلك في إطار جهود إيطاليا لإحياء تقاليدها الأكاديمية، وتكوين صلات جديدة عابرة للدول عقب الحرب العالمية الثانية (67). استغل هذه الفرصة فنانون آخرون أيضاً مثل ممدوح قشلان (1926–2022) وأدهم إسماعيل (1922–1963) ولؤي كيالي (1934–1978). دَرَس المدرِّس في مُحترَف الرسام الإيطالي فرانكو جينتيليني (1909–1981) في عام 1955، واستقر في روما كطالب حتى عام 1960 (68). كانت السنوات التي أمضاها في المدينة غزيرة الإنتاج، وسمحت له بالتجريب على مستوى الأساليب والمواضيع والمواد. وبفضل رغبته في تشرُّب كل ما لدى إيطاليا لتقدمه على المستوى البصري، زار المدرِّس المتاحف والصالات الفنية والمدن والأرياف، وانخرط بشكل مهووس في التعلُّم وتنفيذ اللوحات والرسومات. وخلال إقامته في روما، شرع المدرِّس باستخدام الرمل في أعماله، واستأنف كذلك توظيف الشمع؛ مع العلم أن جينتيليني كان يختبر تقنية استخدام الألوان الزيتية على قماش مغطى بالرمل منذ مطلع الخمسينيات، وهي تقنية لا بد أن المدرِّس راقبها في المُحترَف. كما أن التفاعل بين المدرِّس وجينتيليني كان محور عدة حكايات طريفة؛ وردت واحدة منها لا يتم ذكرها عادة في مقابلة أجراها المدرِّس مع صحيفة "السفير" اللبنانية. توجّه جينتيليني بسؤال للمدرس عن السبب الذي يجعل أعماله غير متأثرة جداً بالتيارات الفنية الإيطالية المعاصرة، ليُجيب الفنان بحقيقة هي عبارة عن الأمر الواقع "أنا شرقي":

"ابتسم جينتيليني بشاربه العريض وأشار قائلاً "الحقيقة ماثلة في عملك، حقيقة اللون والخط، وفي كليهما الكثير من الشرق".
"هل يعني ذلك أن عملي قديم؟"

"لا، إنه خالِد". (69)

تنوّعت تلك الحكايات بحسب الزمان وهوية المستمعين، إلا أن الجوهر بقي عبارة عن تأكيد ذاتي على الهوية السورية في سياق أجنبي ضمن إطار تبادل فني. فقد وجد المدرِّس في الإطار التعليمي الأكاديمي فضاءً يُشرّع ضمنه ممارسته الشخصية أمام عوامل بصرية وتقنية رآها وتعلّمها، بحيث حوّلها إلى جزء من ممارسته الأصيلة، لا مجرّد محاكاة.

التلاعب مع الزمن: أعمال فاتح المدرِّس الورقيّة والتأريخ السوري بين الحداثة والمعاصرة - Features - Atassi Foundation

فاتح المدرس، بدون عنوان، حبر على ورق، ٣٠ * ٢١ سم، بدون تاريخ

إلا أنه وفي إطار التأريخ الرسمي للفن السوري، تم إسباغ تجربة المدرِّس الإيطالية بمعنى قومي سافر، وبدلاً من أن يكون فناناً موجوداً في الخارج لينهل العلم، تحوّل المدرِّس لدى العامة، إلى سفير للفن والمجتمع السوري في الخارج وسعى للحفاظ على نزاهته الفنية. ولربما كانت شرارة هذه الظاهرة هي مشاركته في ملتقيين مثّل فيهما الجمهورية العربية المتحدة: بينالي البندقية عام 1960، وبينالي ساو باولو عام 1961، الذي فاز فيه بالمركز الأول (70). أتت الأرض والمَشاهد الطبيعية لسورية – التي غالباً ما قدمها المدرِّس في لوحاته وقصائده وقصصه القصيرة – لتكون اختزالاً للتأكيد على هذه السردية: ففي الكتيّب الذي رافق المعرض الفردي للفنان عام 1959 في "غاليري سيتشي" في روما، وصف سليم عبدالحق ريف شمال سوريا باعتباره "المدرِّس الأول" لفاتح المدرِّس الذي "يشعر برضى وثقة شعبه الذي جسّد روحه ولونه بأمانة في فنه على الدوام" (71). ومن خلال إنتاجه الفني في هذه الفترة وتكوُّن شخصيته الفنية، وضع معالِم صلة عضوية له مع التراب السوري. ففي عام 1962، نشر قصة قصيرة في صحيفة "الثورة" السورية بعنوان "عود النعنع"، وهي قصة مأساوية لطفلة اسمها "عالو" تعثّرت وغرقت بينما كانت تمدّ نفسها على ضفة النهر لتلتقط عود نعنع. يستهلّ المدرِّس القصة بوصف لنهر قويق وكأنه جسد ناعم مُمدد يتنفس، وضفتاه "وكأنهما على قيد الحياة"، بحيث يمنح المَشاهد الطبيعية السورية مكانة محورية في السرد (72).

 

التلاعب مع الزمن: أعمال فاتح المدرِّس الورقيّة والتأريخ السوري بين الحداثة والمعاصرة - Features - Atassi Foundation

فاتح المدرس، بدون عنوان، أكريليك على ورق، ٣٠ *٢١ سم، ١٩٩٨

تزامنت عودة المدرِّس إلى دمشق في نهاية الخمسينيات مع انطلاق جهد تعليمي مستمر في مجال تدريس الفن في كلية الفنون الجميلة في العاصمة السورية (73). وبالنسبة للفنان السوري وعضو الهيئة التدريسية محمود حمّاد (1923–1988)، فإن وجود كلية للفنون يستلزم ظهور "حضارة عربية معاصرة بشكل كامل" (74). ومع حلّ الجمهورية العربية المتحدة عام 1961، جاهدت الكلية لملء الشواغر التي خلّفتها الكوادر التدريسية المصرية، من خلال توظيف مدرسين من أرجاء أوروبا. إلا أنه عند وضعهم لأسس المقاربة التعليمية للكلية، شعر أولئك الأكاديميون بضغط وعبء التقاليد الأكاديمية، سواء تلك المحلية أو الأجنبية. كان الرسام الإيطالي التجريدي غيدو لا ريجينا أحد أولئك المدرِّسين الجدد، حيث درّس في الكلية بين عامي 1964 و1967. وفي مقاربته للمنهاج الأكاديمي – الذي شجّع فيه الطلاب على التجريب على مستوى المواد والمواضيع – روّج للتجريد باعتباره لغة فنية معاصرة قائمة بحدّ ذاتها ستضع سوريا على الخارطة الدولية وتحرر الطلاب من عبء التقاليد (75). حتى أن حمّاد نفسه حاجج أن بوسع دمشق أن تكون أكثر حداثة من روما بفضل قدرتها على البدء من الصفر (76). وفي الحقيقة فإن استخدام التشبيه عن البدء من الصفر بما فيه من مدلولات ذات صلة بالزمن والكمّ تسربل إلى "بيان الحركة التشكيلية الفنية في سوريا" الذي صدر عام 1962، وهو عبارة عن وثيقة شارك في التوقيع عليها الناقد السوري عبدالعزيز علّون والرسام محمود دعدوش – الذي أسس "صالة الفن الحديث العالمي" في دمشق عام 1960 – وفاتح المدرِّس. حددت الوثيقة 11 نقطة اعتبر مؤلفو البيان أنها تشكل ركيزة الفن العربي. وفي رسالة بعثها إلى سلمان قطايا فور نشر البيان، عزى علّون الحاجة الملحة للوثيقة لما يتم من تقديم لوحات سيئة المستوى "لا تنطوي بأي شكل من الأشكال على مقاربة للأرض التي رُسمت فيها" (77). البند الأول في البيان يُعرّف الفن بأنه 0.10 في إشارة إلى معرض التفوّقية في بيتروغراد الذي عُقد تحت عنوان "0.10"، ولكن اسم المعرض هو بمثابة مصطلح يُجسِّد الرغبة في فن "ذلك العصر". يتطرّق البيان لأفكار الإنسانية الكونية، ويُحاجج بأن الأعمال الفنية يجب أن تكون بمثابة أدوات حفر عابرة للزمن "تثقب جداره"، وتنظر بشكل متزامن إلى الماضي والحاضر والمستقبل (78).

التلاعب مع الزمن: أعمال فاتح المدرِّس الورقيّة والتأريخ السوري بين الحداثة والمعاصرة - Features - Atassi Foundation

فاتح المدرس، بدون عنوان، أكريليك على ورق، ٦٩ * ٣٠ سم، بدون تاريخ

لكن قبل عامين من وصول لا ريجينا إلى دمشق، كانت هناك مناسبتان عاين خلالهما الفنانون السوريون مدى التجريب على مستوى المواد في المنطقة، وتجسّد ذلك بمعرضين للفن الإيطالي التجريدي. جرى الأول في أكتوبر/تشرين الأول 1961 في "صالة الفن الحديث العالمي" التي يديرها دعدوش، وذلك في إطار تعاون مع غاليري "نوميرو" في فلورنسا التي تملكها الرسامة الإيطالية وراعية الفن فيامّا فيغو (1908–1981) والنشطة في مجال عرض الفن التجريدي في الخمسينيات والستينيات (79). تم عرض أعمال لإجمالي 16 فناناً إيطالياً، ومن بينهم اشتُهر روبرتو باتينا (1922–2013)، فلاديميرو تولي (1922–2003) وبييرو غامباسّي (1912–2002) باستخدامهم التجريبي للرمل والفحم والحبر وأقلام التلوين الشمعي (80). تم وصف المعرض بأنه عبارة عن ظاهرة قائمة بحدّ ذاتها تمكّن عبرها المشاهدون من تأمّل "جمال التجريد الذي لا ينضب". كما وُصف المعرض بأنه "أفق غير محدود من الترحال والخيال الحر" والذي وجد فيه "أكثر من شخص مشرقي مادة جديدة، ومحتوى يحلمون به" (81). كان دعدوش قد عاد لتوّه من دراسته في إيطاليا، وظهر في نفس العدد من دورية (l’Orient Littéraire) حيث تم نشر نسخة من لوحته "أوتوسترادا ديل سول" (1961) (82). يُرجّح أن دعدوش رسم هذه اللوحة بمناسبة إقامة معرض "أوتوسترادا ديل سول" في روما بين عامي 1961 و1962 في روما في "قصر المعارض" وتم فيه منح "جائزة وطنية" برعاية "شركة كوفا للطرق" التي تم التعاقد معها لمدّ جزء من الطريق السريع الذي يربط بين بولونيا وفلورنسا (83). تم توجيه الدعوة للمشاركة في المعرض، الذي كان الهدف منه الاحتفال بإتمام العمل على الطريق، إلى فنانين محليين وأجانب لرسم المَشاهد الطبيعية التي يراها المرء أثناء عبور الطريق السريع. ورغم أن لوحة دعدوش لم تَظهر في المعرض النهائي، إلا أنها قدّمت رؤية تجريدية للمناظر الطبيعية باستخدام الرمل والقماش والجصّ، مع تغليف المشهد بضباب دخاني وإحساس بالسرعة يمكن للمرء أن يرى من خلاله اللافتات الطرقية (84). وقد أشار خزندار إلى أن الفنان تخلّى كلياً عن كل ما تعلّمه في مسقط رأسه في الشرق، كل تجاربه ومكتسباته، وقطع خطوات نحو التجريد باعتباره الوسيلة الوحيدة للتعبير عن العصر الراهن (85).

في أبريل/نيسان 1962، قام الرسام الإيطالي التجريدي ريمو ريموتّي (1924–2015) – والذي نال لاحقة شهرة كممثل في أفلام إيطالية وعالمية معروفة – بعرض أعماله في "غاليري هرموش" في بيروت، في أجواء وُصفت بأنها "حمى التجريد" (86). وفي تلك الفترة، استمر المدرِّس – الذي نادراً ما انخرط في الرسم التجريدي – بإضافة الرمل على لوحاته في ممارسة اعتبر معاصروه أنها مرتبطة ببحث الفنان عن تعبير أصيل متعلّق بالأرض السورية. وفي معرِض تعليقه على ذلك، كتب أندريه بيركوف عام 1963 "إبان عودته إلى إيطاليا، تخلّى المدرِّس عن الصيغ التقليدية للرسم الشائعة في سوريا، واستهل العمل مستخدماً لغة جديدة استقاها من الفنون البدائية والقديمة لبلاده" (87). ورغم أنه يُرجح أن المدرِّس نظمها في حلب في الأربعينيات، إلا أنه نشر عام 1963 قصيدة عنوانها "رمال" في مجلة "شِعر" إلى جانب ثلاث قصائد أخرى. تنطوي القصيدة على تداعيات مشاعر مرتجفة ومتداخلة مع الوعي، وتنتهي بفصول مجتزأة من حلم ليلي في فسحة من الرمال (88). تُظهِر ثلاثة أعمال من مجموعة مؤسسة أتاسي ويعود تاريخها لعام 1998 استمرار المدرِّس في استخدام الرمال حتى نهاية مسيرته الفنية. وفي هذه الأعمال، تم استخدام الإكريليك بمساحات لونية لا شكل لها، ثم تم وضع الرمل بشكل عشوائي وتجميعه ومن ثم كشطه بحيث تصبح معالِم الوجوه البشرية واضحة. وهذه الوجوه، التي فسّرها الصحفيون باعتبارها مسحاً طبوغرافياً نفسياً للأرض السورية، تبدو مختنقة ومكبوتة من قبل المادة وكأنها انطباعات متداعية على أكفان الموت (89).

الخلاصة

مع قرب انتهاء فترة عمل لا ريجينا في سوريا، وجد المثقفون أنفسهم منقسمين إزاء قيمة التجريد بالنسبة إلى تطور الهوية الوطنية الفنية (90). وأحداث "نكسة حزيران" عام 1967 والتي انتهت بخسارة سوريا أمام إسرائيل وتشريد الفلسطينيين ولاحقاً الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان في السبعينيات، أجبرت الفنانين على إعادة النظر بالدور الذي يلعبه التعبير البصري والخيال في الاستجابة لعنف وصدمة الحرب (91). اعتبر الشريف أن عام 1967 هو بمثابة عتبة انطلاق مرحلة جديدة من التطور الفني. ففي نقاش حول مائدة مستديرة نظمتها صحيفة "الطليعة" عام 1969، أكّد الشريف على الحاجة لوضع تعريف واضح "للفن المعاصر"، وحاجج بأن ذلك يجب أن يصبح جزءاً من هويتهم إن أرادوا بلوغ المعاصَرة. فالمعاصرة، بحسب الشريف، ليست مجرّد كينونة زمنية عن الحاضر، بل فئة معيارية يجب الانخراط فيها عمداً: إنها "حاضرنا"، وليست "الحاضر" فحسب (92). في أعمال المدرِّس المنفّذة على ورق والتي تنطوي على أكبر قدر من العنف، ينطوي مفهوم الانخراط الفاعل في الحاضر على طعم مرير: فالبشر يتحوّلون إلى مسوخ عنيفة بنظرات متجهمة ومتنافرة وملتوية تكشف عن أسنان يسيل منها الدم أو ثقوب فارغة مكان الفم. وفي مواجهة الخراب الفعلي للحرب، لم يعد المُشاهد مجرّد مراقب حيادي، بل يغدو مدعواً للانخراط في حالة الألم والنزيف، ويقف في موقع المتهَّم (93).

تُشكل أعمال فاتح المدرِّس الورقيّة ضمن مقتنيات مؤسسة أتاسي نموذجاً لحالات عدم الانتظام الناتجة عن مرور الزمن، سواء سار الفنان معه أو ضده. وكجانب مخفي من الإنتاج الفني الرسمي للمدرس، تتسربل هذه الرسومات إلى مسيرته وتشير إلى حالة زمانية تسير بالتوازي وتعقّد سرديات تلك المسيرة نظراً لكونها ذات صلة إيديولوجية بالحكم في سوريا والتوجه القومي. ومن خلال العفوية والارتجال التي تم تنفيذها فيها، تُشكل هذه الأعمال نافذة للمُشاهد على اللحظة التي تسبق تعشّق السيرة الذاتية بالتاريخ، والرؤية الداخلية بالتجسيد الخارجي، والمعارف البصرية المكتسبة والتعبير الشخصي. ففي هذه الأعمال، تظهر بشكل مؤلم آثار وندوب هذه العوامل المتفاعلة مع بعضها البعض.

الحواشي:

(1) "المدرِّس". إخراج عمر أميرالاي ومحمد ملص وأسامة محمود. إنتاج السيار ومرام للإنتاج السينمائي والتلفزيوني، دمشق، 1995. 49 دقيقة، 3 ثواني.

(2) المعرض الفردي الأحدث في "المتحف العربي للفن الحديث" في الدوحة، "فاتح المدرِّس: اللون والامتدادية والحسّ" (أكتوبر 2018 – فبراير 2019)، رغم تمثيل الأعمال المعروضة لمجموعة واسعة من إنتاج الفنان بين الخمسينيات والتسعينيات، إلا أنه ركّز بشكل رئيسي على اللوحات. قدّمت أنيكا لينسن تحليلاً لأعمال المدرِّس من فترة الخمسينيات والستينيات، راجع أنيكا لينسن "إثارة جميلة: اللوحات الحديثة والسياسة في سوريا"، دار نشر جامعة كاليفورنيا، 2020.

(3) تغطية صحفية لمعرض "غاليري أتاسي" الافتتاحي: قصاصة صحفية 5، "روّاد الفنون التشكيلية في غاليري أتاسي"؛ قصاصة ورقية 7، سعاد جروس "من الفنان فاتح المدرس: انجذبتُ إلى الفلاحين لأنهم يشبهون الأرض، وحركتها وما تضمه"، 10 يناير/كانون الثاني 1995؛ قصاصة ورقية 13، "فاتح المدرس، محمود حماد، لؤي كيالي: ثلاث تجارب رائدة في الفن التشكيلي السوري". بإذن من أرشيف مؤسسة أتاسي.

(4) تغطية صحفية لمعرض عام 1996 "فاتح المدرس" في غاليري أتاسي، دمشق. "ملص، محمد، وأميرالاي يرسمان المدرس: الكاميرا الاحترافية تصور الفنان ودواخله"، السفير، 4 فبراير/شباط 1996. أرشيف مؤسسة أتاسي.

(5) "أدونيس: كفنان، تعمل في سبيل المستقبل... أنت ضدّ الذاكرة؛ فاتح: الذاكرة هي الآن، ولذلك الماضي والمستقبل هما جزء من الآن"، السفير، 5 يونيو/حزيران 2009.

(6) أدونيس، "في حركية العالَم لا في الكتب"، في "فاتح وأدونيس: حوار". دمشق: غاليري أتاسي، 2009، صفحة 3.

(7) على سبيل المثال، راجع: "روّاد: ملف الرسامين السوريين 1900–1960". دمشق: غاليري أتاسي، 2010، و"مدونة سورية". دبي: مؤسسة أتاسي، 2016.

(8) مقتبس بتصرف عن

 Keith Moxey, Visual Time: The Image in History. Durham: Duke University Press, 2013, 11-14.

(9) Clark, 340.

(01) تشريد الفلسطينيين كجزء من "نكسة حزيران" بين إسرائيل من جهة ومصر والأردن وسوريا بين 5–10 يونيو/حزيران 1967.

(11) Omar Kholeif, “Tracing Routes: Debating Modernism, Mapping the Contemporary”, in Imperfect Chronology: Arab Art from the Modern to the Contemporary, Works from the Barjeel Art Foundation. Edited by Omar Kholeif and Candy Stobbs. London: Whitechapel Gallery, 2015, 23.

(12) "المدرِّس"، المخرج عمر أميرالاي، 1995.

 مقتبس بتصرف عن أنيكا لينسن،

, “Abstraction of the Many? Finding Plenitude in Arab Painting”, in Taking Shape: Abstraction from the Arab World 1950s-1960s.Munich: Hirmer Verlag, 2020, 117-130.

 (14) Keith David Watenpaugh. Being Modern in the Middle East. Princeton and Oxford: Princeton University Press: 2006, 181.

(15) خليل الموسى، "خمسة أدباء مؤسسون من حلب الشهباء"، المعرفة 508، 1 يناير/كانون الثاني 2006: 205-219.

(16) محمود يحيى الهاشمي، "الحياة الأدبية في حلب"، "الأديب"، سبتمبر/أيلول 1943: 40-43. "فاتح وأدونيس"، 57. طاهر البني، "تجارب تشكيلية رائدة"، دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2008، 118.

(17) المدرِّس، عمر أميرالاي، 1995.

(18) فئة الأفراد رفيعي المستوى الذين تبوؤوا سلطات محلية في الإدارات العثمانية. راجع فيليب خوري، "أعيان المدن والقومية العربية". كمبريدج: دار نشر جامعة كمبريدج، 1983، 3-5.

19)) خالدة سعيد، "يوتوبيا :المدينة المثقفة". بيروت: دار الساقي، 2017، 184.

(20) Arturo Monaco, “Ispirazione Romantica e Sperimentalismo Surrealista in Due Raccolte Poetiche del Siriano Ali Al-Nasir (1890-1970): al-Zama’ (1931) e Suryal (1947)”, La Rivista di Arablit vol.5 no.12 (2016): 43.

(21) “min al-adab al-suriyaliyyah”, Al-Qithara 10, April 1947, 21; Lenssen, Beautiful Agitation, 308.

(22) André Breton, Manifestoes of Surrealism. Translated by Richard Seaver and Helen R. Lane. Ann Arbor: University of Michigan Press, 1969, 1-49. Matthew Gale, Dada and Surrealism. London: Phaidon, 1997, 215-255.

(23) Salma Khadra Jayyusi, Modern Arabic Poetry: An Anthology. Edited by Salma Khadra Jayyusi. New York: Columbia University Press, 1987, 353.

(24) أورخان ميسَّر، "حول السريالية ودفاع عن الفنان فاتح المدرس"، "الأديب"، 10 (أغسطس/آب 1951)، 53.

(25) Robyn Creswell, City of Beginnings: Poetic Modernism in Beirut. Princeton and Oxford: Princeton University Press, 2019, 58.

(26) لبيب ناصيف، "الشاعر القومي أورخان ميسر... رائد الشعر السريالي المنفتح على الحداثة"، "البناء"، 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2014.

(27) Salma Khadra Jayyusi, Trends and Movements in Modern Arabic Poetry. Leiden: Brill, 1977, 516. See also: Khalil al-Musa, “nadharrahqa fi Suryal wa qasa’id ukhra”, al-Thawra 5090 (28 September 1979).

(28) أورخان ميسّر، "سريال وقصائد أخرى"، دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 1979، 20.

(29) أوردتُ في مكان آخر تحليلاً معمقاً لهذا النص ومكانته في التاريخ الأوسع لتوظيف سرياليي حلب للمعارف العلمية.

(30) ميسَّر، "سريال"، 107-108.

(31) ميسَّر، "سريال"، 109. لينسن، "إثارة جميلة"، 306.

(32) سعيد، "يوتوبيا"، 189-190.

(33) خليل الموسى، "خمسة أدباء"، 2013-2014.

(34) Scott C. Davis, The Road from Damascus: A Journey through Syria. Seattle: Cune Press, 2002, 59. Khalil Handawi, “al-fannan Abu al-Hadi As’ad”, al-Adib 7 (July 1951), 21-23. Moudarres’ Surrealist poems were published in the Syrian journal al-Qithara between 1947 and 1948.

(35) سليم عبدالحق، "مع الفنان فاتح المدرس"، "أهل النفط" 3، رقم 34 (مايو/أيار 1954)، 40.

(36) المرجع نفسه.

(37) سلمان قطايا، في سمر حمارنة، "كيف يرى فاتح المدرس؟" دمشق: حمارنة، 1999، 54.

(38) فاتح وأدونيس، 64-65.

(39) راجع لينسن، " Beautiful Agitation, "، 316.

(40) لينسن، " Beautiful Agitation,"، 351.

(41) ميسَّر، "سريال"، 16. "فاتح المدرس: الفنان السوري الرائد"، "الحياة التشكيلية" 67، 1 مارس/آذار 2000.

(42) لينسن، " Beautiful Agitation, "، 360.

(43) أندريه بيركوف، "القمر الشرقي على شاطئ الغرب"، "لوريان ليتريتير"، 21 يوليو 1962، 2.

(44) شريف خزندار وفاتح المدرس. "القمر الشرقي على شاطئ الغرب". دمشق: أيوبية، 1962.

(45) المرجع نفسه.

(46) أسسها يوسف الخال عام 1962.

(47) الياس عوض، "الصدفة ليست فن: لوحات فاتح المدرس"، "الأدب" 3، يوليو/تموز 1963، 45-52.

(48) عوض، 50.

(49) فاتح المدرس، "أربع قصائد مع رسوم"، "شعر" 27، ربيع 1963، 41.

(50) Patrick Seale, Asad: The Struggle for the Middle East. Berkeley: University of California Press, 1988, 72-154.

(51) طارق الشريف، "أزمة الفن التشكيلي العربي المعاصر"، "المعرفة" 139، 1 سبتمبر/أيلول 1973، 164-166.

(52) طارق الشريف، "تحليل لمعنى الفن الحديث"، "المعرفة" 160، 1 يونيو/حزيران 1975، 92-109.

(53) المرجع نفسه.

(54) المرجع نفسه. أصبح الشريف عام 1980 محرر مجلة الحياة التشكيلية، التي تعتبر الذراع الرسمي لوزارة الثقافة السورية. شارلوت بانك، "التعليم الفني في سوريا في القرن العشرين"، في "تعليم الرسم: حول العالم!". هيدلبرغ: دار نشر جامعة هيدلبرغ، 2019، 316.

(55) Malik Mufti, Sovereign Creations: Pan-Arabism and Political Order in Syria and Iraq. Ithaca and London: Cornell University Press, 1996, 231-237.

(56) نجحت أنيكا لينسن في الكشف عن هذا التاريخ لم يتم سبره سابقاً. أنيكا لينسن، "ليونة الفن الطليعي السوري 1964-1970"، "آرت مارجنز" 2، 2013، 46-70.

(57) سيل، 72-117.

(58) عفيف بهنسي، "فن الرسوم في سوريا"، "الأدب" 1، يناير/كانون الثاني 1956، 90.

(59) جورجيو أغامبن، "ما هو المعاصِر؟"، في "ما هي الأداة؟". ترجمة ديفيد كيشيك وستيفان بيداتيلا. ستانفورد: دار نشر جامعة ستانفورد، 2009، 56.

(60) Kirsten Scheid, "Necessary Nudes: Hadatha and Mu'asira in the Lives of Modern Lebanese". International Journal of Middle East Studies 42, 2010: 210-211.

(61) المرجع نفسه، 212.

(62) قيصر جميِّل، "مهنتي وآثارها في بناء الأمة: الرسم"، "الأديب" 1، فبراير/شباط 1943، 3-4. تُرجم النص إلى الإنجليزية بعنوان "الرسام" في كتاب "الفن الحديث في العالم العربي: وثائق أولى". تحرير أنيكا لينسن وندى شبّوط وسارة روجرز. نيويورك: متحف الفن الحديث، 2018، 170-108. 

(63) فاتح المدرِّس. دمشق وباريس: غاليري أتاسي ومعهد العالَم العربي، 1995، 32.

(64) قطايا، في "كيف يرى"، 54.

(65) المرجع نفسه.

(66) المدرِّس، "فاتح وأدونيس"، 64.

(67) Martina Corgnati, “From the Italian Manner to Fluid Modernity: Artists from Italy and the Mediterranean. From the Arab World and Back”, in Mediterranean Crossroads: Arab Artists Between Italy and the Mediterranean. Rome: Ministry of Foreign Affairs, 2009: 26, 28.

(68) أعربُ عن امتناني للدكتورة باربارا دي إيوديسيبوس في "الأرشيف التاريخي للكية" على مشاركة السجلات الرسمية معي.

(69) هدى إبراهيم، "الحرب اللبنانية طبعت أعمال بحس مأساوي"، "السفير"، 16 يناير/كانون الأول 1996. أرشيف مؤسسة أتاسي.

(70) لينسن، " Beautiful Agitation "، 360.

(71) سليم عبدالحق في "فاتح المدرس"، "غاليري سيتشي"، روما، 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1959. روما: معهد تيبيرينو الغرافيكي. مكتبة جامعة الإسكندرية، روما.

(72) فاتح المدرس، "عود النعنع"، "الثقافة"، 1 أكتوبر/تشرين الأول 1962، 36-40.

(73) تأسست عام 1959.

(74) لينسن، "1964-1970 The Plasticity of the Syrian Avant-Garde "، 54-56.

(75) المرجع نفسه.

(76) المرجع نفسه.

(77) "بيان الحركة التشكيلية الفنية في سوريا"، في "الفن المعاصر في العالم العربي"، 198-200. "رسالة إلى سلمان قطايا"، في "الفن المعاصر في العالم العربي"، 201-202.

(78) المرجع نفسه.

(79) Chérif Khaznadar, “Damas découvre l’avant-garde italienne”, L’Orient Littéraire, 28 October 1961. Rosalia Manno Tolu and Maria Grazia Messina, Fiamma Vigo e "Numero". Una vita per l'arte. Edited by Alessia Lenzi. Florence: Centro Di, 2003. Fondo Fiamma Vigo, “Numero” in Archivio di Stato, Firenze.

(80) المرجع نفسه.

(81) المرجع نفسه.

(82) لينسن، "1964-1970 The Plasticity of the Syrian Avant-Garde "، 59.

(83) الجائزة الوطنية للمَشاهد الطبيعية "أوتوسترادا ديل سول"، روما، "قصر المعارض"، نوفمبر/تشرين الثاني 1961-يناير/كانون الأول 1962، "إيديندوستريا إيديتوريالي"، روما، 1961، كتاب المعرض الخاص بجائزة "أوتوسترادا ديل سول"، المقام في روما في "قصر المعارض"، بين 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1961 و7 يناير/كانون الثاني 1962. الأرشيف التاريخي كل أربع سنوات (ASQII.5 b. 3 u. 24.) "أرشيفيو لوتشي"، https://www.dailymotion.com/video/x16wxhg.

(84) Chérif Khaznadar, “Enfin, un “Abstrait” de Talent en Syrie: Mahmoud Daadouch”, L’Orient Littéraire, 28 October 1961.

(85) المرجع نفسه.

(86) Bruno Alfieri and Chérif Khaznadar, “À la Galerie Harmouche: Remo Remotti”, L’Orient Littéraire, 14 April 1962.

(87) André Bercoff, “Moudarres: tout le soleil du desert”, L’Orient Littéraire, 1 June 1963.

(88) فاتح المدرِّس، "قرص الضوء الأسود، رقص، تجسيد فكرة، وجه، رمال"، "شِعر" 25، 1 يناير/كانون الثاني 1963.

(89) أسعد العربي، "الوسط"، 27 نوفمبر/تشرين الثاني 1995. أرشيف غاليري أتاسي.

(90) لينسن، "1964-1970 The Plasticity of the Syrian Avant-Garde "، 59-61.

(91) المرجع نفسه.

(92) "دائرة مستديرة لندوة الطليعة"، في "الفن الحديث في العالم العربي"، 315-321.

(93) لينسن، " Beautiful Agitation "، 367.