عمل فنّي

تمشياً مع موضوع هذا العدد، يبحث القسم المخصص للإضاءة على فنان في أعمال فنّانتين اثنتين، هما: هبة الأنصاري ونور عسليّه. أما العملان اللذان تم اختيارهما فهما عبارة عن وجهين تم رسمهما في العام ٢٠١٦. يُظهر كل وجهٍ منهما بقدر ما يحجُب ويُخفي كل وجهٍ منهما بقدر ما يحاول أن يكشف.

للوهلة الأولى، قد تبدو هذه الأقنعة السوداء في سلسلة أعمال هبة الأنصاري غير المعنونة مضحكة أو حتى سخيفة. لكن عندما تنظر إليها لفترةٍ أطول، تشعر بارتباك. هنالك شيء مؤثر جدا في الطريقة التي تحدّق فيك تلك العيون الميتة ، مثل شبحٍ منبوذ، قناع " كو كلوكس" المعكوس وأشياء شريرة أخرى. ليس مفاجئاً إذاً أن تدرك أن هذه الأعمال التي نُفّذت بوسائط مختلطة تتألف من الأقنعة السوداء الخاصة بالتنظيم الإسلامي ، أي داعش، في العراق وسوريا، والتي تم تهريبها من الرقّـة في شمال شرقي سوريا. تجلس هذه الأقنعة مثل ثقوبٍ سوداء بمحاذاة خلفية هادئة زرقاء كالسماء. وفي الواقع، قد ثُبّتت هذه الأقنعة على مفرشٍ من الساتان وزّيّن كل قناع منها بالخرز والترتر – إشارة إلى المصير اليائس الذي مُنِيت به النساء التي استخدمها التنظيم الإرهابي كعبيد لأغراضهم الجنسية.

وفي الوقت نفسه، يبرز في سلسلة أعمال نور عسليه، "الذاكرة"، ما يبدو كوجهٍ عائم في سائل. فالمنحوتة المصنوعة من الطين الكامنة في داخل الراتنج الشفاف تبدو بشرية بشكل خارق للطبيعة، إذ أنها تشبه المومياوات البشرية التي اكتُشِفت بعد قرونٍ، راسخة في الجفت ومحفوظة تماماً، كأنها نائمة. تشرح نور عسليّه: "في منحوتاتي تشير العيون المُغلقة إلى اللحظة بين الحياة والموت، فأنا أعرّف عن هذه اللحظة بلحظة السلام: هي المرحلة الأخيرة من الحياة والمرحلة الأولى من الموت." وبالفعل، فإن السكينة والنور في هذه المنحوتة يزيدان أكثر من الشعور بالهدوء الذي تثيره العيون المغلقة – إذ أننا لا نعرف ما إذا كان الوجه نائماً وحالماً أو إذا كانت العيون مغلقة إلى الأبد في الموت. تقول عسليّه: " في بلدي، تُخلق المنحوتة لغرضِ مجازي بحت. أما أنا فأريدُ أن أقدّم الوجه في المنحوتة بأسلوب معاصر." ومع ذلك، فإن الوجه الضعيف والمكشوف في وقت واحد يبقى مغلقاً كلياً بالنسبة لنا، فذكرياته مسجونة في داخله مثل الحشرات داخل العنبر. وهذا هو نصف المقصد بالنسبة لعسليّه. تقول نور عسليّه التي كان يعمل والدها في تحنيط الحيوانات: " يتعلّق عملي بذاكرة المواد وليس بموضوع معيّن. كان أبي يحنّط الأجساد، بينما أنا أحنّط اللحظات."

يقدّم هذان الوجهان معاً شيئاً من العلاقة المعكوسة بينهما: يبدو القناع الأسود في عمل هبة الأنصاري بغيضاً للغاية في البدء، لكنه يثير التساؤل حول محنة المرأة في ظل التنظيم الإسلامي كلّما أمعنت النظر فيه. على نقيض ذلك، فإن الوجه المفتوح الرقيق في عمل نور عسليه يجذبك إليه، ولكن في النهاية يبقى مسجوناً ويضيع منّا داخل قفص الراتنج. يرغمنا الوجهان معاً على مجابهة أسئلة صعبة وجهاً لوجه مع عددٍ لا يُحصى من المسائل المعقّدة المحيطة بسوريا اليوم.