خارج الزمان والمكان: حسام بلّان

في لوحات ابن مدينة السويداء، الفنان حسام بلّان، تتقاطع الحقب التاريخية وتأثيراتها لتخرج بعباءة جديدة. تَظهَر في أعماله وجوه تُذكِّر بالتوابيت الرومانية والأيقونات البيزنطية وسراويل جينز أزرق، كلّها موجودة في العالَم نفسه، وجوهٌ تُحلِّق بالمُشاهِد على خلفيات من مسرح الدمى الغنيّ بألوانه، أو حتى مَشاهِد طبيعية سريالية لدالي تُحاكي الصحراء. وفي محاولة منه لتوثيق ما يصفه بأنه ظرف أزلي للإنسانية، تتناغم كل هذه العناصر المتباينة سوية بأسلوب فريد يخلق توليفة هادئة وبديلة للوجود، ذلك الفضاء الموجود داخل الزمن وخارجه، المألوف ولكن الغريب في الوقت نفسه، الملموس ولكن الغامض، وكأنها وجوه مبهمة في حلم، كلّما حاولنا تبيّن معالمها، تملّصت منا أكثر فأكثر. يُدرِّس بلّان في كلية الفنون الجميلة في دمشق التي سبق وتخرّج منها عام 2005. تصوّر أعماله الأفراد والمجتمع في إطار صراع يومي، دون أن تُقِّدم أي مشاهِد عنيفة، والحصيلة هي لوحات يبدو للوهلة الأولى أنها تشخيصية، ولكنها تنحو إلى التجريد. يُخبرنا الفنان في هذه المقالة عن تطوّر عمله على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، ومقاربته في إعداد أعمال أزلية متعددة الأبعاد.

خارج الزمان والمكان: حسام بلّان - Features - Atassi Foundation

حسام بلان، بدون عنوان، ٢٠١٨

المواضيع التي أقدّمها تُحفّزها البيئة التي نشأتُ فيها، في المنزل مع ثمانية أخوة وفي المدرسة وفي الشارع حيث تلك السلطة القاهرة المتجسِّدة في أشكال ونماذج عديدة، اجتماعية ومادية. أحياناً تلهمني صورة في جريدة، أو قصة سمعتها. ومؤخراً، أصبحتُ أكثر اهتماماً بخلق شخصيات تواجه المُشاهِد دون أي حدث درامي أو حركي أو شرح. اعتمدُ في ذلك على مصادر عديدة، منها صور فوتوغرافية من حقبة السبعينيات والثمانينيات، وأخرى من صحف، وحتى فنون تعود للقرون الوسطى. كل شيء يمكن أن يكون مصدر إلهام نظراً لكوني أريد التعبير عن الانتماء الوجودي للأشخاص عبر كسر الانتماء الحديث أو المعاصر باستخدام عناصر متباينة كتمثال روماني صامت وشخصية حية صامتة وسروال جينز ووجه أيقوني وغيرها، بحيث تعطي هذه العناصر صورة مركبة موحدة.

نتيجة التأثيرات المتعددة، تقترب أعمالي من التجريد رغم كونها تشخيصية، وهو ما يمكن الإشارة إليه باعتباره ’ضبابية حواس متعددة الأبعاد‘. فأنا أفكّر باللون والهندسة وبناء الصورة بمعزل عن موضوع العمل بحدّ ذاته. أحاول التركيز على مفهوم ’الآن‘ في أعمالي دون تحفيز ذاكرة المتلقي أو توقع لحدث آت، وذلك في محاولة مني لخلق سكون حرج للشخصيات، بحيث تتواصل مع بعضها ومع المُشاهِد، فإحالاتها النفسية المختلفة يمكن إدراكها على المستوى الداخلي. هذا ما يخلق غموضاً يوحي بتلك الضبابية، بينما أترك للألوان مهمة استحضار الحواس. 

 

المواضيع التي أقدّمها تُحفّزها البيئة التي نشأتُ فيها، في المنزل مع ثمانية أخوة وفي المدرسة وفي الشارع حيث تلك السلطة القاهرة المتجسِّدة في أشكال ونماذج عديدة، اجتماعية ومادية. أحياناً تلهمني صورة في جريدة، أو قصة سمعتها. ومؤخراً، أصبحتُ أكثر اهتماماً بخلق شخصيات تواجه المُشاهِد دون أي حدث درامي أو حركي أو شرح. اعتمدُ في ذلك على مصادر عديدة، منها صور فوتوغرافية من حقبة السبعينيات والثمانينيات، وأخرى من صحف، وحتى فنون تعود للقرون الوسطى. كل شيء يمكن أن يكون مصدر إلهام نظراً لكوني أريد التعبير عن الانتماء الوجودي للأشخاص عبر كسر الانتماء الحديث أو المعاصر باستخدام عناصر متباينة كتمثال روماني صامت وشخصية حية صامتة وسروال جينز ووجه أيقوني وغيرها، بحيث تعطي هذه العناصر صورة مركبة موحدة.

نتيجة التأثيرات المتعددة، تقترب أعمالي من التجريد رغم كونها تشخيصية، وهو ما يمكن الإشارة إليه باعتباره ’ضبابية حواس متعددة الأبعاد‘. فأنا أفكّر باللون والهندسة وبناء الصورة بمعزل عن موضوع العمل بحدّ ذاته. أحاول التركيز على مفهوم ’الآن‘ في أعمالي دون تحفيز ذاكرة المتلقي أو توقع لحدث آت، وذلك في محاولة مني لخلق سكون حرج للشخصيات، بحيث تتواصل مع بعضها ومع المُشاهِد، فإحالاتها النفسية المختلفة يمكن إدراكها على المستوى الداخلي. هذا ما يخلق غموضاً يوحي بتلك الضبابية، بينما أترك للألوان مهمة استحضار الحواس. 

خارج الزمان والمكان: حسام بلّان - Features - Atassi Foundation

حسام بلان، بدون عنوان، ٢٠١٩

شَهِدَتْ أعمالي على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية انتقالاً بطيئاً من الصور الواقعية وصولاً إلى ما هي عليه الآن. الزمن ملتبِس في أعمالي: حاول التكعيبيون إعطاء نظرة محيطة للكتلة من اتجاهات عديدة، وحاول فرانسيس بيكون صياغة مفهوم الكتلة المتحركة. وفي الحالتين هناك مفهوم الزمن، كأزلية في الأول، وكاجتزاء لحظيّ في الثاني. ولهذا ألجأ إلى محو آثار تلك اللحظية في المشهد، وذلك عبر التقشف في الظلال والألوان والأبعاد والحركة. فالانتماء الوجودي يوحي باستمرارية (الآن) للشخصيات في العمل. وهناك خلفية الشخصيات – سواء كانت بسيطة أو تمثّل قاعة أو مسرح – التي توحي بفضاء نفسي. أريد بذلك أن أصطحب المُشاهِد إلى مكان خارج الزمن، وأخلق حالة نفسية قد لا تنطوي بالضرورة على "سرد" واضح بحدّ ذاتها. 

لطالما كنتُ مهتماً بالفارق بين الميتافيزيقي والواقعي، وبين الذاتي والموضوعي. والآن بعد عشرين سنة على دخولي كلية الفنون في دمشق، أدكتُ أن تحوّلي من الصور الواقعية وصولاً إلى المقاربة التجريدية يشبه سياق تطوّر الفنون في عصر النهضة، فبدأنا نستخدم الفن كتعبير عن الواقع، ولكنه أيضاً نظام تشبيه إيديولوجي، ولذلك فإن "الحقيقي" و"الطبيعي" قد تكون مفاهيم حرفية، ولكنها وجودية أيضاً. وأظن أن بحثي عن الحقيقي والجميل، والطبيعي بشكل ما، قاد هذا التحول البطيء في أعمالي: ببساطة إنه قول الحقيقة، وتقديم مَفهومَيّ الوجود والحياة، وليس مفهومَيّ الزمن والواقع، مع التخلص من التشبيه والتخلي عن التجميل والدراما. 

شَهِدَتْ أعمالي على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية انتقالاً بطيئاً من الصور الواقعية وصولاً إلى ما هي عليه الآن. الزمن ملتبِس في أعمالي: حاول التكعيبيون إعطاء نظرة محيطة للكتلة من اتجاهات عديدة، وحاول فرانسيس بيكون صياغة مفهوم الكتلة المتحركة. وفي الحالتين هناك مفهوم الزمن، كأزلية في الأول، وكاجتزاء لحظيّ في الثاني. ولهذا ألجأ إلى محو آثار تلك اللحظية في المشهد، وذلك عبر التقشف في الظلال والألوان والأبعاد والحركة. فالانتماء الوجودي يوحي باستمرارية (الآن) للشخصيات في العمل. وهناك خلفية الشخصيات – سواء كانت بسيطة أو تمثّل قاعة أو مسرح – التي توحي بفضاء نفسي. أريد بذلك أن أصطحب المُشاهِد إلى مكان خارج الزمن، وأخلق حالة نفسية قد لا تنطوي بالضرورة على "سرد" واضح بحدّ ذاتها. 

لطالما كنتُ مهتماً بالفارق بين الميتافيزيقي والواقعي، وبين الذاتي والموضوعي. والآن بعد عشرين سنة على دخولي كلية الفنون في دمشق، أدكتُ أن تحوّلي من الصور الواقعية وصولاً إلى المقاربة التجريدية يشبه سياق تطوّر الفنون في عصر النهضة، فبدأنا نستخدم الفن كتعبير عن الواقع، ولكنه أيضاً نظام تشبيه إيديولوجي، ولذلك فإن "الحقيقي" و"الطبيعي" قد تكون مفاهيم حرفية، ولكنها وجودية أيضاً. وأظن أن بحثي عن الحقيقي والجميل، والطبيعي بشكل ما، قاد هذا التحول البطيء في أعمالي: ببساطة إنه قول الحقيقة، وتقديم مَفهومَيّ الوجود والحياة، وليس مفهومَيّ الزمن والواقع، مع التخلص من التشبيه والتخلي عن التجميل والدراما. 

خارج الزمان والمكان: حسام بلّان - Features - Atassi Foundation

حسام بلان، بدون عنوان ،٢٠٢٠

كمدرّس أحاول تشجيع الطلاب على النضج من مجرّد "التعلم" إلى خلق التساؤلات والتجريب، وأن يفكروا من خلال العمل. فأهمية التعليم الذي تلقيته في الجامعة تكمن في رؤية الطرق التي سلكها الفن، والبحث عن طرق جديدة. أما تعليم الفن فهو ضربٌ من الحماقة، وواجِب مدرِّس الفن أن يجعل الدرس مُختَبَراً لتعلّم النظر للأشياء بطريقة متجددة. أثناء التدريس، أشعر دائماً أنني طالب، وهنا تكمن المتعة، فكثيراً ما تتفاعل وجهات نظر عديدة، وأُعيد النظر في المُسَلَّمات من جديد، لكني أفضِّل أن أكون فناناً فقط ومتفرّغاً للفن بالكامل.

كمدرّس أحاول تشجيع الطلاب على النضج من مجرّد "التعلم" إلى خلق التساؤلات والتجريب، وأن يفكروا من خلال العمل. فأهمية التعليم الذي تلقيته في الجامعة تكمن في رؤية الطرق التي سلكها الفن، والبحث عن طرق جديدة. أما تعليم الفن فهو ضربٌ من الحماقة، وواجِب مدرِّس الفن أن يجعل الدرس مُختَبَراً لتعلّم النظر للأشياء بطريقة متجددة. أثناء التدريس، أشعر دائماً أنني طالب، وهنا تكمن المتعة، فكثيراً ما تتفاعل وجهات نظر عديدة، وأُعيد النظر في المُسَلَّمات من جديد، لكني أفضِّل أن أكون فناناً فقط ومتفرّغاً للفن بالكامل.