أحوال ومآلات الفن السوري في لبنان

ما زلت أؤمن أن الفن كان وسيبقى وثيقة وشهادة بصرية تروي تاريخ الشعوب. أعرف أيضاً أن قولي هذا ليس بجديد ولربما قد ردده كثيرون من قبل، إنما لا بد ونحن في صدد إصدار هذا العدد من مجلتنا المخصص للنشاط الفني للفنانين السوريين في لبنان من استدعاء الذاكرة والعودة إلى الظروف التاريخية والثقافية والأحوال السياسية والاجتماعية ، ومن ثمّ إلى المآلات التي رسا عليها الفن والفنانون في ظل تلك الظروف في كل من سورية ولبنان على حد سواء

 

منذ الدراسة في المرحلة الابتدائية، لم نتعلّم في كتب التاريخ المدرسية أن هناك سورية ولبنان فقط، بل أن هناك بيروت و دمشق و القدس ، وغيرها من المدن والقرى الكبيرة والصغيرة ، على اختلاف أهميتها وحيوتها، كأن هذه المدن تتجاهل الحدود والخرائط السياسية . كنا نسكن مدننا وقرانا، جبالنا وساحلنا، كنا بسطاء أو أذكياء، أُمييّن أو متعلمين، أغنياء أو فقراء.. لقد كان للأسباب التاريخية والجغرافية-الإثنية دوراً كبيراً في تحديد مصير و إمكانيات شعب هذه البقعة من الأرض بتنوعها وغناها الحضاري، ولذا بوسعنا القول أنه و لشدة التقارب و التبادل بين ثقافات هذه المدن ليس هناك فنانون سوريون أو لبنانيون، إنما ننظر إليهم كفنانين فحسب بتجرّد عن هوياتهم التي يحملونها. ولهذا، ومن أجل تحديد نقاط موضوعنا والاقتراب من مشهد الفن السوري في لبنان، سنفكر في الفن بوصفه شهادة واعية وموقف إنساني، وليس كنشاط تزيني أو مهارات تقنية

أحوال ومآلات الفن السوري في لبنان - Features - Atassi Foundation

Tawfic Tarek 'Untitled' Oil on Canvas, 62 x 47 cm, 1924

كانت سلطة الدولة العثمانية تمتد على كافة الأراضي التي أصبحت فيما بعد سورية ولبنان، وكان الرسامون نادرون. و خلال فترة الحكم العثماني ، كان فيما كان، المسلم يخط الآيات، والمسيحي يرسم الأيقونات، والمزين يزخرف الدار، حتى جاء الروّاد منذ عشرينيات القرن العشرين ، الذين قصد معظمهم الدول الغربية للدراسة والاطلاع على فن التصوير الأوروبي تبعاً للمدارس الكلاسيكية. لدى عودتهم بعد إتمام دراساتهم ، أخذ هؤلاء الفنانين من الجيل الأول يتنقلون بين دمشق وبيروت والقدس وحلب ، سواءً بسبب وظائفهم الرسمية، أو لتلبية طلبات الزبائن الميسورين للقيام برسمهم، أو لتصوير البلدات والقرى ، فنانون مثل توفيق طارق وداوود قرم ( المتنازع على هويته حتى اليوم)،  ومصطفى فروخ ونصير شورى اللذان ، وبحسب ما أخبرني إلياس زيات يوماً ، لطالما ترافقا متنقلين بين سورية ولبنان ليرسما جنباً إلى جنب ، المنظر الطبيعي ذاته أحياناً. هكذا كان العديد من الفنانين مثل سعيد تحسين وميشيل كرشة وصليبا الدويهي يتنقلون بين بيروت ودمشق وجبال لبنان ومعلولا وتدمر وبعلبك من أجل رسم المناظر الطبيعية والمواقع التاريخية والوجوه الاجتماعية والشخصيات الدينية. إذاً لقد ساعد الامتداد الجغرافي الطبيعي بين سورية ولبنان العديد من الفنانين من عدة أجيال على إغناء الثقافة البصرية والفكرية، واستمر هذا الحال من تنقل وتبادل لدى فناني جيل الحداثة، الذي تزامن مع نشاط ثقافي شعري وفني بين شعراء وفنانين سوريين وآخرين لبنانيين

يعود بدء تأسيس أول صالات العرض في بيروت لأواخر خمسينات القرن الماضي، كان أولها «غاليري وان» لصاحبها الشاعر يوسف الخال، ونعرف جميعاً الدور الذي لعبته هذه الصالة لعرض أعمال لفنانين سوريين وعرب، في مجتمع يميل بمعظمه إلى الثقافة الغربية بلغتها وسلوك أفرادها

 

في تلك الحقبة، تنامى الشعور القومي والإصرار على التمسك بالهوية العربية، والاهتمام بالمسائل والقضايا الوطنية ومصير الانسان العربي خصوصاً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. ولذا جاء عصر الحداثة الفنية السورية زاخراً بفنانين كبار التزموا بفكر المرحلة ومنذ ذلك الحين والفكر الملتزم سمة يتّسم بها فن العديد من الفنانين السوريين. أما في لبنان ، كان اندلاع الحرب الأهلية المحرض الأكبر لالتزام الفنانين اللبنانيين بالتعبير عن العنف والحرب والدمار والانخراط بالهم الوطني. انتقل العديد منهم وخصوصاً الشباب إلى أوروبا وأميركا واستخدموا الوسائط الحديثة المتعددة، ساعدهم على ذلك اتقانهم للغات الفرنسية والإنكليزية ، وأيضاً على التواصل مع مجتمعاتهم الأخرى الجديدة

أحوال ومآلات الفن السوري في لبنان - Features - Atassi Foundation

وعلى الامتداد نحو الشرق، كان حزب البعث السوري يحتكر النشاط الثقافي والفني، فانقطع التواصل بين سورية ولبنان بل وبين شرق بيروت وغربها. تألّم فاتح المدرس بسبب الحرب الأهلية اللبنانية ورسم أجمل اللوحات مثل «بيروت في الليل» و «أطفال حرب لبنان». لقد جمعَ المدرّس بين سورية ولبنان كما لم يجمعهما أي فنان آخر، واعترف به كل من السوريين واللبنانيين كقامة فنية.  عاد التواصل خجولاً بعد توقف الحرب ، ومن ثم أصبحت الطريق بين دمشق وبيروت سالكة ، ولطالما كان هناك بريق خاص للفن السوري لدى اللبنانيين

لدى بدء المأساة السورية في عام ٢٠١١ كانت بيروت أقصر الطرق للفنانين السوريين. هاربين من الرعب والقتل، لاذوا إلى الجوار، لم يكن بين متاعهم إلا القلم والفرشاة، أضحت لوحاتهم تموء بالوجع، تتبعثر فيها الأشلاء وتتكاثر الوحوش الآدمية. بقي في بيروت من لا خيار آخر أمامه، وهرب منها من استطاع إلى الهروب سبيلاً، وطُرد منها من لم يكن مرغوباً به، و استفاد البعض من مهارته في إنشاء العلاقات العامة وتنشيطها.. تهافتت صالات العرض على الاحتكار، تباهى البعض مدّعين بأنهم سند لهؤلاء الشباب، متوخّين عدم المخاطرة، تنشط تجارة أحدهم وتدور عجلة البيع ومع هذا، وخلال كل هذا، يصلنا هسيس الفوقية، وجعجعة الإعلام، وغياب الدراسات والأبحاث، وانعدام الصداقات والتعاون وتبادل الخبرات. كلّ في عالمه يبحث عن غايته يجمعهم القليل ويفرقهم الكثير.